"محمد شراره، من الإيمان الى حرية الفكر" لبلقيس شرارة

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
08/11/2009 06:00 AM
GMT



في كتابها الصادر عن "دار المدى" بعنوان "محمد شراره، من الايمان الى حرية الفكر"، تقدم بلقيس شراره سيرة سياسية – فكرية - نضالية عن والدها اللبناني العراقي محمد شراره. على رغم ان الكتاب مخصص في الاصل لتظهير مراحل في حياة والدها وطبيعة فكره وادبه، الا ان الكتاب يحمل صورة مزدوجة عن حياة محمد شراره في سياق التطورات السياسية التي كانت تعصف بالعراق منذ العهد الملكي قبل انقلاب 14 تموز عام 1958 ثم استيلاء البعث على السلطة في عام 1963 وصولا الى فترة سيطرة صدام حسين على السلطة عام 1979 وما بعدها. صحيح ان الكتاب سيرة ذاتية، الا انه تحول بالفعل مرجعاً يمكن من خلاله قراءة التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والفكرية التي عصفت بالعراق على امتداد نصف قرن. وعلى رغم ما تتسم به السير الذاتية من محاباة وضعف الموضوعية احيانا، وخصوصا ما يرد على لسان الكاتب نفسه، او بقلم اقرب انسبائه، الا ان بلقيس شراره استطاعت ان تقدم صورة عن والدها تتسم بالموضوعية والشفافية، من دون ان تسقط في الذاتية الهادفة الى تلميع صورة والدها.
محمد شراره هو ابن جبل عامل الجنوبي اللبناني، ولد مطلع القرن الماضي وترعرع في مناخ اتسم بهيمنة الادب في بيت ادبي، حيث كان ملزما منذ الصغر اتقان اللغة العربية وحفظ الشعر العربي. وعلى غرار تقليد كان سائدا يقضي بإرسال المتفوقين من ابناء الجبل الى العراق من اجل الدراسة في النجف تمهيدا للبس العمامة والعودة الى البلد كرجل دين وعلم، ارسل محمد شراره الى النجف في عام 1920، وانخرط في حلقات الدراسة على ايدي علماء دين كبار هناك من امثال النائيني والجزائري وكاشف الغطاء. لكن حسه النقدي والعقلاني في الآن نفسه وضعه في تصادم مع الكثير من المفاهيم السائدة والمستخدمة في التدريس، شكلا ومضمونا، فقاد حملة على المناهج، وسلّط سيف النقد على ما تحويه من غيبيات وبعد عن الواقع، اضافة الى مخالفتها منطق العقل. هذا التحول في تفكيره جعله يخلع العمامة مبكرا، في حدود عام 1936، مخالفاً بذلك رغبة والده في ان يصبح عالم دين. خلع العمامة هذا، سار عليه عدد من الدارسين اللبنانيين في النجف كان منهم الراحل حسين مروة ثم كريم مروة وغيرهما من الذين تحولوا الى خيارات فكرية وسياسية لا علاقة لها بالاصل الذي اتوا العراق من اجله، وذلك عبر التحول الى تيارات اشتراكية ويسارية.
بعد خلعه العمامة، تحول محمد شراره الى التعليم في المدارس الثانوية، لكن الجديد والابرز هو انخراطه في الحياة السياسية في مرحلة اتسمت بصعود الحركة القومية والنضال من اجل التحرر من الاستعمار، فاستمر نشاطه السياسي، صاعدا احيانا ومتقطعا احيانا اخرى، حتى وفاته عام 1979. تحول محمد شراره الى الاشتراكية، وانخرط في نضالات الحركة الشيوعية التي كانت تعيش حالة ازدهار في العراق، وكان في قلب السجالات الفكرية والسياسية التي شهدها العراق على يد التيارات الماركسية والليبيرالية والقومية. في الخمسينات، وقبل انقلاب تموز عام 1958، شهد العراق فترة اضطهاد وقمع على يد نوري السعيد، فأُدخل شراره الى السجن ونزعت عنه الجنسية العراقية، مما اضطره للعودة الى لبنان. استبشر خيرا بثورة تموز 58 وانهيار الحكم الملكي، لكنه فجع بالمآل الذي تحولت الثورة اليه، حكماً ديكتاتورياً اسوأ من السابق، واضطهاداً اصاب الشيوعيين، ومذابح وتنكيلاً بالقوى الديموقراطية المعارضة. لم يكن يوما على وفاق مع حكم حزب البعث، وهذا ما تسبب له بالاعتقال والسجن. عاش معاناة الحكم الديكتاتوري البعثي في العراق، وتضاعفت معاناته اللبنانية بعد اندلاع الحرب الاهلية وما سبقها من اعتداءات اسرائيلية كانت تطال الجنوب.
تشير بلقيس شراره الى محاور في تفكير والدها الادبي ونشاطه، فقد كانت داره في بغداد ملتقى للأدباء والشعراء والسياسيين حيث كانت تعقد الندوات التي ساهمت في اطلاق الشعر الحديث. وكان له دور في تأسيس "الجمعية العاملية – النجفية" التي كانت تضم مجموعة من الشباب اللبنانيين والعراقيين الذين كانوا يدرسون في مدارس النجف، حيث تكونت لديهم آراء ناقدة للمدرسة الدينية ولبرامجها التعليمية. تحوّل محمد شراره الى الماركسية في الاربعينات، واتجه الى استخدام التحليل المادي للتاريخ في كتاباته. اتخذ موقفا معارضا بقوة للأساليب المستخدمة في احياء ذكرى عاشوراء، وخصوصا ما يتصل منها بالضرب بالسلاسل واللطم على الصدور وتدفق الدم من الجسم، ودعا الى تهذيب المراسم بجعلها مراسم حضارية ترفع من سمعة البلاد ولا تؤذي صحة البشر، وهو موقف نال عليه محمد شراره النقد والتهجم من رجال الدين في العراق.
تميز شراره بموقف جريء في الدفاع عن حقوق المرأة، ودعا الى المساواة الكاملة لها مع الرجل في الحقوق، وكان عقلانيا مؤمنا بدور اساسي للمثقف في تطوير الحياة الاجتماعية وفي تقدم البلاد علميا وسياسيا. دفعه انتماؤه الى تيار الاشتراكية وتبني مفاهيمها النظرية وخصوصا الماركسية منها، الى التزام الواقعية في الادب والشعر والفن، على غرار ما كان سائدا آنذاك من اخضاع المفاهيم الفكرية والادبية الى تيار الالتزام السياسي واعتبار الواقعية الطريقة الصحيحة في التعبير عن مصالح الجماهير، اضافة الى التأكيد ان هذه الواقعية هي المفهوم العلمي والصحيح الواجب التزامه في جميع الميادين.
كانت حياة محمد شراره غنية ومعطاءة في ميادين متعددة، على رغم ان المعرفة بكتاباته وافكاره لم تكن منتشرة في لبنان. في كلمة على قبره، يقدم شقيقه الراحل عبد اللطيف شراره هذه الصورة عنه بالقول: "قد يخيل للواحد منا انه يعرف شخصا ما، لكثرة ما رآه او سمعه، او تحدث اليه، او قرأ كتاباته او اطلع عليها، لكنه يجد نفسه انه لم يكن يعرف ذلك الشخص معرفة تامة او دقيقة، حين يقع بين يديه مثلا كتاب او رسالة او أثر كان على جهل به، في حياة ذلك الشخص، وحتى خلال معرفته به". وهذا ينطبق تماما على محمد شراره وفكره.